هل تذكرون يحيى عياش؟.. ذاك الشاب النحيل المتوقد الذكاء، عالي الهمة الذي أطلق عليه رئيس الوزراء الصهيوني "إسحاق رابين" اسم "المهندس" لدقة عملياته ووقوعها في أماكن وأوقات لم تخطر للعدو ببال، والتي مرت ذكراه كما تمر كل عام دون أن نلتفت إليها لنأخذ منها الزاد.
لا يمر يوم إلا ونفوسنا تهفو إلى الشهادة في سبيل الله، وما بزغت شمس نهار إلا ورفعنا أكف الضراعة إلى الله رب العالمين أن يهب لنا الشهادة في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن نسير على درب الشهداء السابقين.
يحيى عياش اسم لا يجهله أحد في العالم، ذلك لأنه خط حروف اسمه بنيران الجهاد وكم الدمار الذي حل ببلاده على يد الصهاينة والأمريكان المجرمين.
يحيى عياش الذي أصبح صداعًا في رأس قادة يهود، فكان إسحاق رابين يقول: "أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست"، وقوله أيضًا:" لاشك أن المهندس يملك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وإن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرا واضحا على أمن إسرائيل واستقرارها".
لقد أصبح يحيى عياش العدو رقم واحد ليس لدولة إسرائيل فحسب بل لكل صهيوني موجود في العالم.
التعريف بالشهيد(البطاقة الشخصية) :
ولد يحيى عبد اللطيف محمود عيّاش في14 من ذى القعدة 1385ﻫ، الموافق 6 مارس 1966 في قرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، وينحدر من أسرة عُرفت بتدينها وماضيها الجهادي حيث شارك أبوه في ثورة عز الدين القسام عام 1936م.
حفظ القرآن في صغره، وكأيِّ فلسطيني كبُر يحيى وكبُر معه الألم الذي يعتري الأحرار، كان يدرس في مدرسة القرية الابتدائية ويقف واجمًا في وسطِ الطريق يحملق في جرَّافاتِ المغتصبين التي تسوِّي أراضي القرية وتلتهمها لتوسيع المغتصبة، وقد واصل دراستَه الإعدادية والثانوية وحصل في امتحان التوجيهية على معدل 92.8% في القسم العلمي عام 1984م، وقبل اسمه فى كلية العلوم بالجامعة الأردنية وكلية الهندسة جامعة اليرموك، لكنه رفض الالتحاق بهما بسبب ظروف والده المادية، والتحق بجامعة بيرزيت - قسم الهندسة الكهربائية- برام الله، واتصف يحيى عياش بالذكاء الحاد، والحفظ الدقيق، وكان كثير الصمت، وقد برع في علم الكيمياء.
شكلت جامعة بيرزيت محضنًا تربويًا هامًا في تشكيل شخصية الشهيد، وأصقلت شخصيته ووجهتها نحو المسار الصحيح، كان من أوائل من التحقوا بحركة المقاومة الإسلامية حماس، والذي دفعه لتأسيس فرع للحركة في قريته رافات، وكان لها دور في التصدى للدوريات الصهيونية دون خوف أو جزع.
لقد وهب عياش حياته وتفكيره للجهاد، تقول أمه: "كان يبدو دائمًا غامضًا وفي حياته سر، ألح عليه أبوه وأمه في الزواج وأن يكون كباقي أقرانه في الارتباط، وخطبوا له ابنة خالته وكانت تُسمى هيام عياش، وبنى بها فى 9 سبتمبر 1991م، وبعدها اعتقلته قوات الاحتلال حيث أمضى عامًا ونصف وراء قضبان سجونهم، ورزقه الله بالبراء وعبد اللطيف والذي سُمي بعد استشهاده بيحيى، انتقل للحياة في غزة، بالرغم من آلاف الجنود الصهاينة المتواجدين على الطريق مما دفع رابين في اجتماع الوزراء أن يضرب الطاولة بغضب عن كيفية اجتياز المهندس لكل هذه الحواجز والوصول إلى غزة.
وعمِل المهندس بجدٍ ونشاط، وقام بكافةِ تكاليف وأعباء الدعوة الإسلامية- سواءٌ داخل الجامعة أو في مدينة رام الله أو قريته رافات-
مع انطلاقِ شرارة الانتفاضة أرسل أبو البراء رسالةً إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام يُوضِّح لهم فيها خطةً لمجاهدة اليهود عبر العمليات الاستشهادية، أُدرِج المهندس على قائمةِ المطلوبين لقواتِ الاحتلال لأول مرة في نوفمبر سنة 1992. وكان من كلماته بعدها: "على الكريمِ أن يختار الميتةَ التي يحب أن يلقى الله بها، فنهاية الإنسان لابدَّ أن تأتي ما دام قدر الله قد نفذ". وفي 25 أبريل 1993م كانت بداية المطاردة بينه وبين جنود الصهاينة، وبدأت المداهمات لمنازل أهله وأصحابه، وسخر الشاباك كل إمكاناته للنيل منه، لكن الأم الواثقة من ربها قالت كلماتها التى تنم على عقيدة راسخة أرضعتها للشهيد منذ صغره قالت لهم: "لقد تركنا جميعا دون أن نشبع منه وداس على الشهادة الجامعية منذ أن أصبح يحيى مطلوبًا فإنه لم يعد ابنًا لي، إنه ابن كتائب عز الدين القسام".
ومع انطلاق الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 انطلقت عبقرية عياش وسيطر الرعب على قلب كل يهودي وتحدثت الصحف والإذاعات، لقد حوّل حياتهم إلى جحيم ونار تلظى.
لقد تميز بالسرية التامة في عمله مما فوت الفرصة على عملاء الشاباك من اختراق كتائبه، حتى أُطلق عليه لقب المهندس والعبقري وكارلوس الثعلب والرجل ذو الألف وجه، ولقد وصفه رئيس الشاباك بقوله: "إن يحيى عياش يبرهن على قدرة عالية جدًّا في البقاء، وقد تبيَّن أنه ذكي ومتملص بارع على ما يبدو، فهو يحرص على استبدالِ مخبأه بوتيرة عالية، وهذا يجعل عملية العثور عليه بالغة الصعوبة".
وفي ضوء الفشل الذي منيت به أجهزة الشابك خلال ثلاث سنوات من عدم معرفتهم التوصل للمهندس أعفى إسحاق رابين رئيس الوزراء الجنرال يعقوب بيري رئيس جهاز الشاباك من منصبه لعجزه عن التوصل للمهندس وكلف الجنرال كارمي غليون على أن تكون من أول مهامه القبض على المهندس.
لم يجعل المهندس الصهاينة يهنئون بوقت من الراحة فبعد مذبحة الخليل والتي ارتكبها اليهود ضد المصلين في الحرم الإبراهيمي، جهّز المهندس رجاله فحولت عملياتهم أحلام اليهود لكوابيس، وحياتهم لجحيم.
كان مجموع ما قُتل بيد "المهندس" وتلاميذه ستة وسبعون صهيونيًّا وجرح ما يزيد عن أربعمائة.
حادث استشهاده :
لقد سخرت الحكومة الصهيونية كل إمكاناتها للوصول إلى المهندس، وقامت بتعذيب أفراد من حماس للاعتراف ووضعت كل أنواع التكنولوجيا التي وصلت إليها لتحديد مكانه، وكان دائمًا ما ينجو المهندس بفضل الله تعالى، وبفضل ما آتاه من قدرات، حتى استطاعوا عن طريق عميل لهم يُدعى كمال حماد –أن يعرف مكان تواجد المهندس منزل صديقه أسامة حماد- وكان كمال حماد خاله- وكان أسامة حاصل على بكالوريوس لغة عربية ولم يعمل بعد فقام خاله بتعيينه في شركاته وأعطاه هاتفًا جوالا ليستخدمه، وكان دائمًا ما يأخذه منه بأية حجة، حتى إذا كان يوم أن تواجد فيه المهندس عنده أعطاه الجوال بعد أن وضع الشاباك قنبلة داخل بطاريته، ورصد التليفون من قبل الطائرات الإسرائيلية وما كاد صباح الجمعة الخامس من يناير 1996 يبزغ، فقام المهندس لصلاة الفجر ثم نام بعدها قليلا وفي حوالي الثامنة صباحًا اتصل خال أسامة على التليفون المنزلي ليخبر أسامة بفتح جواله لوجود عميل للشركة يريد أن يحدثه، ثم قُطعت الحرارة عن التليفون المنزلي، وكان المهندس ينتظر مكالمة من والده على التليفون المنزلي، لكن وجده لا يعمل فاتصل والد عياش به على الهاتف الخلوي وما كاد أسامة يخرج من الغرفة حتى انفجرت هذه القنبلة لتحول رأس المهندس إلى أشلاء، في هذا التوقيت كانت تحوم حول البيت طائرة إسرائيلية، وأسرع أسامة بإخبار كتائب القسام بما حدث فأتوا ونقلوا الجثمان إلى مستشفى الشفاء، وما مرت أيام على استشهاده حتى سقط سبعون صهيونيًا قتيلا ردًا على مقتل عياش، وكانت جنازته بحق مجمعة للفلسطينيين فقد كانت أكبر جنازة شهدها الشعب الفلسطيني.
لقد ظل يحيى عياش رمزًا للمقاومة تستدعيه ذاكرة المجاهدين في كل مواجهة مع اليهود، وستظل ذكراه تحيي القلوب وتذكي النفوس .
قال فيه الدكتور يوسف القرضاوى:
أحسب أن من هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، المهندس الموهوب، المجاهد الشهيد يحيى عياش، الذي نذر نفسه ومواهبه ووقته وجهده، وكل ما يملك، لقضية كبيرة خطيرة، هي قضية المسلمين الأولى، قضية أرض النبوات التي بارك الله فيها للعالمين، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
نذر ذلك ، وهو في ريعان الشباب، ومقتبل العمر، في السن التي يلهو فيها اللاهون ، ويعبث فيها العابثون، ولكن أخانا الحبيب يحيى كان أمامه مُثُل أخرى، مصعب بن عمير، أسامة بن زيد ، وأمثالهما من شباب هذه الأمة.
إنَّ سيرة المجاهد الشهيد يحيى عياش رسالةٌ إلى كل شبابِ العرب والمسلمين أن يُشمِّروا عن سواعدِ الجدِّ ويواجهوا التحديات بدلاً من حالةِ الاسترخاء التي يُدبِّر لها الأعداء في أكبر مؤامرة في التاريخ على أمةٍ بكاملها.
بقلم عبده مصطفى دسوقي باحث تاريخي وطالب ماجستير